عندما اشترى عمر بن الخطاب لسان الحطيئة.. مواجهة بين العدل والهجاء

في واحدة من أكثر الحكايات إثارة بين القوة والعدل والشعر والسياسة، وقف الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في مواجهة الشاعر الحطيئة، الذي اشتهر بلسانه اللاذع وهجائه المقذع، حتى أنه لم يسلم منه أحد، لا والداه ولا حتى نفسه!
بداية القصة.. هجاءٌ غير مباشر لكنه موجع
بدأت القصة عندما اشتكى الزبرقان بن بدر، أحد وجهاء العرب، إلى الخليفة عمر بن الخطاب من بيت شعر قاله فيه الحطيئة:
“دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي”
استدعى عمر بن الخطاب الحطيئة ليسأله عن الأمر، وعندما سمع البيت، لم يجد فيه هجاءً صريحًا، فقال: “أين الهجاء في هذا؟ أراه عتابًا لا سبًا!”، لكن الزبرقان رد عليه قائلًا: “يا أمير المؤمنين، أكل مروءتي أنني آكل وألبس؟ أين شرفي وفضلي إن كان هذا كل ما يُقال عني؟”.
حسان بن ثابت يحسم الجدل.. وحكم صارم بانتظار الحطيئة
إزاء هذا الموقف، لجأ الخليفة العادل إلى أهل الشعر للحكم على البيت، فاستدعى حسان بن ثابت، شاعر الرسول ﷺ، الذي قال: “يا أمير المؤمنين، هذا ليس هجاءً فحسب، بل هو أشد من الهجاء!”، ثم جاء لبيد بن ربيعة ليؤكد الحكم نفسه، مما دفع عمر بن الخطاب إلى اتخاذ قرارٍ صارمٍ بسجن الحطيئة.
استعطاف خلف القضبان.. وبيت شعر يبكي عمر
لكن الحطيئة، الذي اعتاد استخدام لسانه في الهجوم، قرر أن يجرب سلاحه الوحيد للدفاع عن نفسه: الشعر. ومن داخل سجنه، نظم أبياتًا مفعمة بالتوسل والاستعطاف، وأرسلها إلى عمر بن الخطاب:
“ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ
فاغفِرْ عليك سلامُ اللهِ يا عمرُ”
بكى عمر بن الخطاب حتى بلّت دموعه لحيته، لكنه لم يكن ليسمح للحطيئة بالخروج دون قيد أو شرط، إذ كان يعلم أن لسانه لا يعرف التوقف عن الهجاء.
الحل العبقري.. عمر يشتري لسان الحطيئة!
وجد الفاروق نفسه أمام معضلة: الحطيئة لا يمكنه التوقف عن هجاء الناس، وفي الوقت نفسه، لا يمكن تركه سجينًا إلى الأبد. وهنا ابتكر عمر بن الخطاب حلًا غير مسبوق، إذ قال:
“أشيروا عليّ في هذا الرجل، إنه يهجو الناس بلا رادع، ولا أرى إلا أن أقطع لسانه!”
لكن بعض الصحابة توسطوا للحطيئة، فقرر عمر بن الخطاب شراء لسانه مقابل ثلاثة آلاف درهم، على أن يكف عن التعرض للناس بالهجاء.
الحطيئة يهجو حتى نفسه!
ورغم العهد الذي قطعه، إلا أن الحطيئة لم يستطع التخلي عن عادته، فظل يهجو حتى نفسه قائلًا:
“أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بسوءٍ، فما أدري لمن أنا قائله”
وظل لسانه سيفًا مسلطًا على الجميع حتى وفاته، إذ أوصى بأن يُوضع على ظهر حمار بالمقلوب حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكأن لسانه لم يعرف يومًا معنى الاستسلام!
درس في العدل والحكمة
لم تكن قصة الحطيئة مجرد مواجهة بين شاعر وخليفة، بل كانت درسًا خالدًا في العدل والحكمة، وفي قوة الكلمة وتأثيرها، وكيف أن لسانًا واحدًا استطاع أن يرعب الرجال ويهدد الكرامة، حتى اضطر عمر بن الخطاب إلى “شرائه” ليوقف سيفه اللفظي عن الناس.